بقلم: عبد الغني سلامة
مرة أخرى نتناول موضوع الفساد، وطالما أن الفساد في ذهنية الكثيرين مقترن بالسلطة، فلنطرح هذه الأسئلة: هل لدى السلطة دائرة مختصة بتخريج كوادر الفاسدين؟ وهل يشترط بكل وزير أو مدير عام أن يجتاز دورة مكثفة في فنون الفساد قبل تسلمه منصبه؟ وهل كان الشخص الفاسد إنساناً نظيفاً طاهراً قبل أن يتسلم منصبه؟ ثم تلوث وفسد بتعليمات واضحة من السلطة؟
الإجابة على تلك الأسئلة بالتأكيد لا.. ولا يوجد مثل هذا الشيء في أي نظام في العالم، ولا حتى عند عصابات المخدرات.. فإذاً، كيف ولماذا اقترنت سمعة السلطة بالفساد؟!
الحقيقة أن الفساد موجود في كل أنظمة العالم، بل هو موجود في كل تجمع بشري، وفي كل إنسان منا نوازع للشر والفساد، مثلما فيه نوازع الخير والصلاح.. وتلك طبيعة البشر.
حتى في الأنظمة المتقدمة والديمقراطية والشفافة ستجد الفساد، لكنك ستجد الهيئات الرقابية، والصحافة الحرة، والقضاء المستقل، والمواطن الواعي المسؤول، لذا كلما سولت للمسؤول نفسه بالفساد ردعته تلك المنظومة المتينة، وإذا تجرأ ومارس أي شكل من الفساد سينكشف أمره، ولو بعد حين، وسيقدَّم للقضاء. لكن مشكلة تلك الدول أنها لا تعنى بأنواع الفساد الأخرى: أي الفساد الذي ترعاه وتحميه الدولة العميقة، والمتمثل بالقوى الطفيلية، ومافيات السلاح، ومافيات الدواء، وسماسرة البورصات، وعصابات الاتجار بالبشر، وغيرهم ممن تحميهم مراكز القوى في الدولة.
لنترك تلك الدول في حالها، ولنسلط الضوء على الفساد في بلداننا العربية، والتي سنجد فيها كل أشكال الفساد، الظاهر منها والباطن: هدر أموال الشعب، واستباحة مقدراته وموارده، والسماح بنهبها من قبل الدول الكبرى، صفقات السلاح العبثية والتي لا معنى لها سوى تحويل أموال الأمة لتجار السلاح، استثمار المليارات في البنوك الأجنبية، التطبيع مع إسرائيل، الرشاوى التي تقدمها للمواطنين على شكل امتيازات، هدر حقوق العاملين من غير مواطنيها، التمييز والقوانين العنصرية، المحاصصة الطائفية، الاستبداد والقمع، السجون والتعذيب، وغياب سيادة القانون، وتغول الحكومة والأجهزة الأمنية على الشعب، تزوير الانتخابات، توريث الحكم، غياب العدالة الاجتماعية، البطالة، العشوائيات، غياب الحريات، إهمال البحث العلمي، تدهور التعليم، ضعف البنى التحتية، المشاريع القومية الوهمية، عدم عرض موازنة الدولة على الشعب، عدم وجود نقابات مهنية حقيقية، ولا حرية صحافة، وتبعية القضاء لرأس الدولة.. هذا هو الفساد الحقيقي.
وبالمناسبة، كل أشكال الفساد تلك موجودة فعليا في جميع الدول العربية، بدرجات متفاوتة، وهو عند أفضل دولة منها يفوق أضعاف الفساد المنسوب للسلطة الوطنية، أو الموجود فيها بالفعل، وأخطر بكثير.. والمواطنون في تلك الدول الشقيقة يعلمون ذلك، ويكتوون بهذا الفساد صباح مساء.. يدفعون ثمنه من دمهم، وفقرهم، ومعاناتهم.. ومع ذلك مجبرون على السكوت، ومن يتكلم يلقى جزاءه.
الغريب، أن الإعلام العربي (وخاصة «الجزيرة») لا يرى كل تلك الأشكال من الفساد، وربما يسلط الضوء على بعضه لدى دولة ما، حين تكون العداوة والبغضاء بينهما فقط، ويصمت عما هو دون ذلك.. لكن الإجماع فقط على فضح وتضخيم الفساد في السلطة الفلسطينية.. وهذا أمر يدعو للتساؤل.. لكن الإجابة الأكيدة «ليس حبا بفلسطين».. ولا كرها بالفساد.
قد يظن البعض أن هذا لتبرئة السلطة الوطنية، أو لتبرير فساد فيها.. لا هذا ولا ذاك.. فوجود فساد في دول أخرى عربية أو أجنبية لا يبرر الفساد في السلطة، ولا عند غيرها.. كما أنه لا أحد ينكر وجود فساد في السلطة، وقد كتبت عنه في مقالات سابقة. لكن الفكرة في التساؤل عن سبب تضخيم الحديث عن فساد السلطة، ومحاولات تعهيرها، وإسقاطها شعبيا.
مع أنّ تقارير دولية عديدة، لمؤسسات متخصصة، وللبنك الدولي، وللعديد من الدول المانحة أشادت بالنظام المالي للسلطة الوطنية، وبنظامها الإداري، وبالجهود التي بذلتها الحكومة في سبيل مكافحة الفساد، والحد منه.. ولكن، على ما يبدو أن الصورة الأولى التي أظهرتها السلطة في بدايات تأسسيها ما زالت مطبوعة في الأذهان؛ إذ اتسم أداء السلطة آنذاك بالفوضى، والارتجال، وغياب المؤسسات، والعمل بنفس المنهجية والنمطية التي كانت سائدة أيام الثورة، وفي المنافي، حيث لا مساءلة، ولا رقابة، ولا عقاب.
ومع ذلك، ما زالت أشكال أُخرى عديدة من الفساد موجودة، فإن غاب الفساد المالي (أو كاد)، إلا أن أشكال الفساد الأخرى ما زالت تهز صورة السلطة، وتضعف ثقة الناس بها؛ مثل هدر الأموال في غير مكانها الصحيح، أو ضعف التخطيط، وحكم الرجل الواحد في كل مؤسسة، وضعف النظم الرقابية، وضعف استقلالية القضاء، فضلا عن الممارسات الخاطئة للأجهزة الأمنية، وفي مراكز التوقيف.. إضافة إلى الأخطاء الفردية التي يرتكبها وزراء ومسؤولون وقادة أجهزة.
أحيانا، بعض أشكال الفساد لا يمكن ضبطها كليا، وتظل الهيئات الرقابية والقوانين غير قادرة تماما على منعها، ربما تستطيع محاسبة الخاطئين والفاسدين بعد ذلك، ولكن لا يمكن وضع رقيب ومفتش على كل مسؤول، وأحيانا تكون القوانين غير واضحة، وفيها ثغرات، أو تكون المنظومة بأكملها فيها خلل.. والمشكلة الأكبر حين تكون المنظومة المجتمعية هي مصدر الخلل.
كل أشكال الفساد مرفوضة ومدانة ولا يجوز تبريرها، ولكن بعض أشكال الفساد لا يوجد نص قانوني يعرّفها ويحددها، وبالتالي يصعب توجيه اتهام لمن يمارسها بنص قانوني واضح، ولكن من المفترض وجود مؤسسات رقابية وإعلامية، ومنظومة أخلاقية تحكم المسألة، وثقافة شعبية تحاسب المسؤول إن أخطأ، والذي يحدد سلوك المسؤول والمواطن هي «المنظومة الأخلاقية» و»الثقافة الشعبية»، وهي أيضا التي تراقب النظام السياسي، قبل الهيئات الرقابية ولجان التفتيش. وهذا كله يأتي نتاج نظام ديمقراطي متكامل.
الوزراء وقادة الأجهزة وكبار المسؤولين وصغارهم هم نبات هذا الشعب، ومن نفس البيئة، ومن نفس الثقافة.. منهم الخيرون والشرفاء والمخلصون، ومنهم الفاسدون.. وكما في الشعب خيرون وطيبون وشرفاء.. هنالك أيضا من يمارسون الفساد، ولكن على مقاسهم، وربما بعضهم يحلمون أن يصيروا فاسدين، لكنهم غير قادرين على ذلك، أو لم تتح لهم الفرصة..
مشكلة كل من يتحدثون عن الفساد، أنهم يختزلونه بممارسات القيادة.. ويغفلون عن الفساد الذي تمارسه الأغلبية؛ كلٌ على مستواه، وبحسب موقعه وإمكاناته.