غزة- صافيناز اللوح:
الكثيرُ من الأمور التي لا يرضى عنها الانسان، ويحاول جاهداً أن يكافحها بكل الطرق، فهي ظواهر باتت عبئاً حقيقياً يجب على المجتمع مداراتها وإيجاد حلولاً لها.
فالتسول أحد هذه الظواهر التي تتفشى في المجتمع الفلسطيني وعلى وجه الخصوص قطاع غزة، الذي ازدادت نسبته وارتفعت خلال الفترة الماضية، ليكون للأطفال نصيب من قطعة الألم التي يتذوقها الغزيون وسط الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني الداخلي.
ففي هذا التقرير محاولة الحديث بشكلٍ مهني وقانوني عن ظاهرة تسول الأطفال، ضحايا الحروب والتسول لجلب لقمة عيشهم، وسط نزاع الحاكمين على من يشتهى أكل قطع أكثر من الكيكة المصنوعة على كرسى العرش، وفي ظل الحصار الخانق المفروض عليهم منذ عقد ونصف بل أكثر.
التسول آفة خطيرة..
آفة التسول، والتي انتشرت بشكلٍ كبير في قطاع غزة، ظاهرة تهدد المجتمع بأسره، وتقتل عزة النفس وتميت النخوة، وتؤدي إلى الانحراف الأخلاقي والفكري، حبثُ تنشط في أوقات ومواسم معينة، مثل شهر رمضان والأعياد أو بأماكن يتواجد بها مستشفيات وبنوك ومحال تجارية وأسواق ومطاعم ومقاهي وأماكن عامة، وهناك من يتسولون على طرفي الطرقات وآخرين يدقون أبواب المنازل.
فالمستول يتبع حيّل لكسب الشفقة وطلب يد العون والمساعدة، ومنهم من يستغل صغره وعجزه عن العمل مثل الأطفال، وله أنماط متعددة كـ: “التسول الظاهر، المقنّع، الموسمي، العرضي الاحترافي، والإضطراري” وغيرهم.
وللتسول في فلسطين أسباب عديدة، منها الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بالإضافة إلى الحصار الإسرائيلي وممارساته الخانقة، حيثُ عمل منذ عام 1967 على إفقار الشعب الفلسطيني، وإدامة حالة تبعية اقتصاده للاقتصاد الإسرائيلي، من خلال نهب الثروات الطبيعية والسيطرة على المعابر والحدود والتحكم بالصادرات والواردات، وتقييد حركة المواطنين ونشر الحواجز العسكرية، ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، وجدار الفصل العنصري، وفرض الإغلاق، والحصار على قطاع غزة، فهذا أدى لزيادة الضغط على كاهل الأسر الفلسطينية التي عجزت عن تلبية معظم متطلبات الحياة لأطفالها وعوائلها، ما زاد عدد العاطلين عن العمل، وفقدانهم لمصدر الرزق.
وعن الأسباب الاجتماعية للتسول، مثل الطلاق والخلافات بين الأبوين وتفكك الأسرة، وجنوحها للعنف والقسوة وتمزق أوصالها، كلها عوامل تؤدي إلى زيادة التسول في المجتمع الغزي، يل الفلسطيني بشكل عام.
ورود ذابلة في بساتين الشوك..
على حافة الطريق لشارع صلاح الدين وبالتحدي بالقرب من مدخل مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يتجول الطفل “أحمد.ص” 10 أعوام بين المركبات التي تقف مجبرة أمام إشارة المرور الحمراء لمد يده إلى السائق والركاب وطلب منهم أموال، تحت بند التسول.
طلبت من الطفل أن يركب معي في السيارة، في البداية رفض أحمد ذلك، لكنني أقنعته أنني سأعطيه شواكل، وليس شيكلاً فقط، ولن أذهب بعيداً وطلبت من السائق الوقوف على حافة الطريق بعد إشارة المرور قرب مدخل النصيرات، وبالفعل صعد الطفل وجلس بجانبي.
تحدثت مع أحمد عن اسمه واين يسكن، فقال لي إنّ منزله في شمال قطاع غزة، لكنه يأتي إلى وسط القطاع، بعيداً عن منطقة سكنه أو من يعرفه، ليستطيع مد يده والتسول للحصول على المال.
تحدث أحمد، قائلاً وبلغته الطفولية: إنّ والده مريض ولا يعمل، ووالدته تطلب منه الخروج للبحث عن عمل ولا يتوفر أي عمل له كطفل قاصر في قطاع غزة، فلجأ إلى التسول لجلب الأموال وإعطاءها إلى والدته حتى لا تقوم بضربه”.
وبعد هذا الحديث طلب أحمد العشرة شواكل، ليضمن أنني لا أكذب عليه، وحتى أطمأنه قمت بوضعها في يده، حتى أنه هرب بعدها على الفور وذهب ليتسول مرة أخرى بين المركبات التي تقف أمام إشارة المرور.
وأمّا عن أيمن 14 عاماً، من المخيم ذاته، ويسكن في منتصفه بمنطقة السوق، والداه فرقهما نزاع الحياة الزوجية ووصلا إلى طريق الطلاق بعد انسداد الحلول كافة، وتدخل لجان الإصلاح والعائلتين، ليكونا سبباً في تسول طفلهما الوحيد الذي كبر على هذه المهنة منذ عدة سنوات، وخاصة بعد زواج والده من امرأة أخرى، تطلب منه أن يخرج للعمل ليطعم نفسه.
هذه قصة أيمن الذي رأيته خلال تواجدي داخل السيارة أثناء ذهابي إلى مخيم النصيرات وسط القطاع، حيثُ لفت انتباهي طريقة الكلام اللطيف والمعسول الذي يخرج من فم طفل كهذا، وبطريقة تبكي من أمامه ليشعر بالحزن عليه ويعطيه الأموال.
أيمن، تحدث ، عن حرمانه التعليم من الصف الرابع، فور طلاق والداه، وعندما سألناه عن الذي أجبره على ذلك، فأجابني: “أبوي طلق أمي وأنا اشتريت الشارع”.
جملة أيمن هذه على الرغم من صغر سنه، دقت مشاعري من الصميم، وأذتني كأنه خنجر في قلبي، حينها لا أعلم وبشكلٍ تلقائي وضعت يدي على رأسه وانتهى بيننا اللقاء.
الشئون الاجتماعية: انقطاع المخصصات أحد أسباب الكارثة..
لم يكتف الغزيون من نار حصارهم أو انقسام من سيطروا على الحكم من الأخوة المتناحرين على كرسي زائل، بل زاد انقطاع مخصصات الشئون الاجتماعية للأسر الفقيرة، معاناتهم وأكثر، فمنذ عام وعدة أشهر لم يتقاضوا أموالهم التي تأتيهم كل 3 أشهر مرة.
فالأطفال في قطاع غزة، دفعوا أيضاً ثمن انقطاع مخصصات الشئون الاجتماعية، ليصبحوا ضحايا لآفة التسول، بعدما كانوا ضحايا للحروب وحرمانهم من العيش كباقي أطفال العالم.
المتحدثة باسم الشئون الاجتماعية في قطاع غزة أ.عزيزة الكحلوت تحدثت حول ظاهرة التسول مؤكدة: أنّ لجنة تعزيز السلوك القيمي الحكومية أعطت موازنة لمشروع كامل للمتسولين بشكل عام بما فيهم الأطفال في قطاع غزة.
وشددت الكحلوت، أنّ وزارة الشئون الاجتماعية ترأست هذه اللجنة التي سيبدأ العمل بهذا المشروع فعلياً وعلى أرض الواقع الأسبوع القادم، ولكن من أوقفنا حتى اللحظة هو عدم وجود مكان ولكننا أنجزنا هذه الخطوة وسنباشر قريباً التنفيذ.
وأكملت حديثها، أنّ وزارة العمل والداخلية والقضاء الشرعي وعدة وزارات أخرى مشتركة في هذا المشروع ولكل دوره، فنحن نعمل كفريق ومرشدين لكل مؤسسة وسيكون عمل مختص لها.
وتابعت، أنّ المشروع سيستمر من شهر يونيو لحين الانتهاء منه والذي لا يوجد به أي شروط لانضمام المتسولين له، بحسب ما أشارت به الكحلوت لـ”أمد”.
وأوضحت، أنّ كل من هو متسول سينطبق عليه القانون، وهذا ليس أول مشروع بل الثالث، وهناك عدد كبير من المتسولين تم احتجازهم من قبل الداخلية التي طبقت قانون التسول في القطاع، مثلاً النساء تم وضعهم في بيت الأمان والأطفال في مؤسسة الربيع.
حقوقي: أكثر من ثلثي المجتمع يسبح في ظاهرة التسول..
وفق تقارير رسمية، فإن نحو 80% من سكّان قطاع غزة، والبالغ عددهم نحو مليوني و300 نسمة، يصنّفون على أنّهم فقراء، وغير آمنين غذائياً، وهم يتلقون المساعدات الغذائية والمالية، وقد فاقم الحصار الإسرائيلي المُشدّد، والضرائب الباهضة، نسب الفقر والبطالة في القطاع المُكتظّ بالسكّان.
الحقوقي صلاح عبد العاطي تحدث ، عن التسول قائلاً: إنها ظاهرة في المجتمعات التي تنتشر فيها الفقر والبطالة وينعدم بها الأمن
اياً كان، فهي تعد وفق القانون أو المجتمع ظاهرة اجتماعية لغياب ضمانات لعدم توفر الحد الأدني من مستوى المعيشة.
وأكد عبد العاطي، أنه “لا يوجد أعداد محددة للمتسولين في قطاع غزة، والذي من المفترض أن تحصيه وزارة التنمية والشئون الاجتماعية حتى تستطيع إلغاء التسول على أرض الواقع أو التسول الإلكتروني، ليتم على الأقل الحد من هذه الظواهرة المرتبطة بالمجتمع بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 15 عاماً، وسوء الأوضاع الانسانية، فلا بد من ضمان العمل للحد من هذه الوسيلة بشكل أو بآخر.
وعن أسباب انتشار وزيادة نسبة تسول الأطفال في قطاع غزة قال عبد العاطي “نحن نعيش بمجتمع غير مستقر على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فعلى المستوى السياسي، هناك احتلال قطع تطوير المجتمع الفلسطيني، كما تسبب الحصار المفروض على القطاع، بتراجع المؤشرات الاقتصادية واحتدام الحروب العدوانية، التي أدت لزيادة الفقر والبطالة”.
وشدد، أنّ الانقسام وفرض العقوبات من قبل السلطة على قطاع غزة، وفرض الضرائب جميعها جعل 84% من سكانه، تنعدم لديهم مؤشرات الأمن الغذائي ويعيشون على المساعدات الخارجية، و65% منهم تخطى خط الفقر، عدا عن البطالة وانتشارها في أواسط الشباب، وهذه أسباب حقيقية لارتفاع نسبة عمالة الأطفال والتسول والفقر والأمراض الاجتماعية المختلفة.
ونوه، أنّ هذه القضية مرتبطة بغياب سياسي للحد من المظاهرة السلبية، والمساعدات التي تقدم للغزيين غير كافية، فأكثر من 150 ألف أسرة لم تتقاضى مخصصاتها من الشئون الاجتماعية على مدار قرابة سنة وعدة أشهر، إلى أن أعلن الاتحاد الأوروبي عن ارجاع برنامج المساعدات، وبالتالي يمكن أن يكون في نهاية شهر 7 أو 8، وهذا يرفع مؤشرات الظواهر السلبية في المجتمع.
وأكمل حديثه ، أنّ اللوم يلقى على عاتق الاحتلال الإسرائيلي من جهة والانقسام من ناحية أخرى والجهات الحكومية في قطاع غزة كطرف ثالث، والتي لا يوجد لديها سياسة واضحة لمكافحة التسول، فهناك لجنة شكلت لمكافحة ظاهرة التسول عقدت اجتماعات برئاسة النيابة العامة ولكن الأمر ليس قانونياً معالجته فقط.
واستدرك بالقول، إنّ “التسول جريمة، ويجب متابعتها ومعالجة قضائية ومجتمعية وأسرية، ويجب أن تتوفر جهود الجهات الحكومية، والقطاع الخاص، ووضع من لا يحتاجون التسول في مراكز التأهيل والإصلاح، وإن احتاج يجب مساعدتهم والوقوف إلى جوارهم من خلال الحكومة لمنع هذه الظاهرة”.
مواطنون متذمرون يشتكون ومطالب على المحك..
لم يقف حد التسول عند تأذي الأطفال وعائلاتهم، بل يفوق ذلك ليشتكى المواطنون هذه الظاهرة وما آلت إليه أوضاع أطفال قطاع غزة، حيثُ ألقوا اللوم على جميع الأطراف دون استثناء.
الصحفي هاشم السعودي من “وكالة شمس نيوز”، وهو شاهد متواصل ومتابع عن كثب للقضايا المجتمعية في قطاع غزة، تحدث مع “أمد للإعلام” حيثُ قال: إنّ ظاهرة تسول الأطفال وحتى غير الأطفال بدأت واضحة، وارتفعت خلال الخمس سنوات الأخيرة عن سابقتها مقارنة مع ما كان موجوداً”.
وتابع السعودي، “كان يكتفي الأطفال بالتسول على مفترقات الطرق، لكن تطورت الحالة وأصبحنا نجدهم في الشوارع والمشافي وأمام الجامعات، وعند مفترقات الطرق بشكل ملحوظ ومتزايد، وهذه الظاهرة خطيرة جداً”.
وألقى الصحفي الفلسطيني خلال حديثه، أسباب التسول الطفولي، لغياب الرقابة الحكومية عليها، وفقدان دور مؤسسات المجتمع الأهلية المختصة في رعاية الأطفال بشكل كبير، ومنعهم من العمل كمتسولين، رغم أن الظروف الحياتية صعبة في ظل انعدام أو قلة فرص العمل والمساعدات التي كانت تقدم لأسر هؤلاء الأطفال وأولياء أمورهم، ولكن ذلك لا يبرر انتشارهم وارتفاع أعدادهم.
وطالب، كل من يمكنه تقديم المساعدة وحل تلك الظاهرة يتحمل المسؤولية، وبالدرجة الأولى وزارة الداخلية التي لم تكمل ما بدأت به من ملاحقة لهؤلاء الأطفال ومحاولة منعهم من التسول على المفترقات والشوارع، وتأتي بعدها وزارة التنمية الاجتماعية ومؤسسات المجتمع الأهلية التي تعنى بشؤون وقضايا الأطفال، وعلى البيئة التي لم توفر للأطفال أدنى حقوقهم، مع عدم إغفالنا بأن عدد كبير من المتسولين الأطفال يقف ورائهم أهاليهم الذين يرسلون أبنائهم للتسول.
ووجه الصحفي السعودي رسالته ، للداخلية في قطاع غزة، بأن تلاحق الأطفال المتسولين، وأن يكون لديها خطة واضحة ورؤية كاملة لمنع مثل الظاهرة، مع عدم اغفال الجانب الانساني في معالجة تلك المعضلة ومحاولة إيجاد بدائل تحميهم من تلك الظاهرة.
وفي السياق ذاته، أكد المواطن صقر رجب 28 عاماً، في حديثه، أنّ التسول ظاهرة غريبة، منتشرة في شوارع وأزقة قطاع غزة، لا سيما ازديادها بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة.
وتحدث رجب، عن ظاهرة جديدة منتشرة منذ فترة، وهي ظاهرة التسول الإلكتروني على شتى وسائل التواصل الإجتماعي، والذي يعتبرها البعض مصدراً لسد جوعهم وتوفير بدل لايجار منازلهم لمن لا يمتلكون بيت يأويهم، ويمكثون بالإيجار، مضيفاً أكاد أجزم أن غالبية المتسولون هم، ممن يتقاضون مخصصات الشؤون الإجتماعية التي حرموا منها لفترة تجاوزت العام والنصف لحتى هذه اللحظة لم يصرف لهم شيء من مخصصاتهم.
وطالب المواطن رجب، من كافة الجهات المعنية وأصحاب القرار اتخاذ التدابير اللازمة للحد من هذه الظاهرة المنتشرة، وتوفير حياة للفقراء مثلهم مثل أي إنسان يعيش حياة كريمة، وبعيدة عن الجوع والفقر.
إذاً، يقع على عاتق المجتمع العبء الأكبر في محاربة ظاهرة التسول؛ لأنها تنتشر بتجاوب وتعاون الناس معها وتختفي بكف الناس عن إعطاء هؤلاء الأطفال المتسولين للمال؛ فيجب على جميع أفراد المجتمع التعاون مع الجهات المختصة للحد منها والقضاء عليها، كما يجب على الجهات المسئولة في قطاع غزة تجريم التسول، بفرض عقوبة قانونية على منتسبيها وخاصة الأطفال، فيما يوفر المسئولون العمل لكل قادر على العمل، والضمان الاجتماعي لكل عاجز، نتيجة لمرض أو إعاقة أو شيخوخة.
ملاحظة: تم التواصل مع عدة أشخاص في الشرطة بالقطاع من بينهم الناطق باسمها أيمن البطنيجي ومسئولها في وسط قطاع غزة أبو محمد أبو ناصر، والداخلية للحديث عن ظاهرة التسول ولكن لم يستجيب أحد لنا لأسباب عديدة نتحفظ بها.