بقلم: ابراهيم أبراش
ارتبطت القضية الفلسطينية ارتباطاً وثيقاً بمحيطها العربي وتداخل ما هو وطني فلسطيني مع ما هو قومي عربي حيث كان مصطلح البُعد القومي للقضية الفلسطينية يفرض نفسه في كل الأدبيات التي تتناول الشأن الفلسطيني على المستوى الشعبي و الرسمي، وكيف لا يكون ذلك وقد خاضت دول عربية حروباً مع إسرائيل وجرت انقلابات عسكرية أو ثورات باسم فلسطين، بل إن الفكر القومي العربي منذ تأسيسه في منتصف القرن العشرين اعتبر القضية الفلسطينية قضية مركزية للأمة جمعاء وكل المنظومة الفكرية والسياسية القومية كانت ذات صلة بالقضية الفلسطينية وبالصراع مع الكيان الصهيوني، فالوحدة العربية شرط لتحرير فلسطين، والأمن القومي العربي لمواجهة الكيان الصهيوني الغاصب، حنى حكم العسكر ورفض الديمقراطية كان من أجل فلسطين كما كانت تزعم الأنظمة الخ، كما أن منظمة التحرير الفلسطينية في بداية تأسيسها منتصف ستينيات القرن الماضي نشأت في أحضان القمم العربية وبقرار رسمي عربي قبل أن تتحرر من الوصاية الرسمية العربية جزئياً بعد هزيمة حزيران 1967.
ويمكن القول إن المشروع الوطني الفلسطيني عند تأسيسه وكما عبر عنه ميثاق منظمة التحرير الأول لم يكن مشروعاً وطنياً خالصاً بل كان مزيجاً من عدة مشاريع: المشروع الوطني والمشروع القومي العربي والمشروع الإسلامي والمشروع التحرري العالمي، والهدف الذي تم وضعه في ميثاق المنظمة وكما عبرت عنه أدبيات فصائل المقاومة آنذاك وهو تحرير كل فلسطين وعودة اللاجئين كان يرتكز على وجود هذه الأبعاد والتحالفات والفلسطينيون وثورتهم كانوا طليعة الأمة العربية في معركة التحرير، قبل أن تنهار هذه الأبعاد أو تنكشف محدودية امكانياتها على تغيير موازين القوى لصالح الفلسطينيين.
البعد القومي إنهار بعد هزيمة حزيران 67 وانقسامات الساحة العربية وصراع الأنظمة والحركات القومية العربية مع بعضها البعض وتوقيع إتفاقية كامب ديفيد ثم مع إنهيار النظام الإقليمي العربي إثر حرب الخليج الثانية، والبعد الإسلامي كان أكثر التباساً وضعفاً حتى إن ضياع القدس واعلانها عاصمة للكيان الصهيوني لم يستفز المسلمين للتحرك والأدهى من ذلك أن جماعات مسلحة إسلامية ذهبت لتقاتل في أفغانستان والبوسنه وسوريا والعراق وليبيا وسيناء وفي أفريقيا الخ ولم تفكر بمقاتلة الصهاينة الذين يحتلون القدس (أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين)، كما أن البعد التحرري العالمي تراجع بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبقي الفلسطينيون وحدهم تقريباً في مواجهة عدو يفوقهم في موازين القوى وفي شبكة تحالفاته التي تعززت بعد موجة التطبيع الثانية في عهد الرئيس الأمريكي ترامب.
لا شك كان لهذا البُعد إيجابيات كثيرة على مستوى الدعم الشعبي مادياًً وسياسيا وتبني الرواية الفلسطينية في الإعلام ومناهج التعليم، وحتى رسمياً فقد استمرت الأنظمة العربية في دعم الشعب الفلسطيني سواء في مرحلة التحرر الوطني أو بعد تأسيس السلطة الفلسطينية كما كان لها دور مهم في المحافل والملتقيات الدولية، كما احتضنت دول عربية مؤسسات منظمة التحرير وقواعدها العسكرية الخ.
ومع ذلك فإن حالة التباس وأدلجة كانت تضخم من مصطلح البعد القومي أو القول بأن القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى، فلم يكن هناك عنوان يمثل هذا البعد وكل نظام أو حركة قومية كان/كانت تزعم أنها عنوان القومية والأكثر حرصاً على القضية الفلسطينية، كما كانت هذه الأنظمة والحركات في صراع أو خلافات بين بعضها البعض، الناصرية وبعث العراق وبعث سوريا وحركة القوميين العرب والقذافي… كما كان بعضها يوظف القضية الفلسطينية لمحاربة بعضها البعض.
بسبب هذه الخلافات لم تكن هناك استراتيجية قومية عربية للتعامل مع القضية الفلسطينية لا عند جامعة الدول العربية ولا عند الأنظمة والأحزاب القومية، ونتذكر حديث الزعيم جمال عبد الناصر عام 1964 مخاطباً وفداً من فلسطينيي قطاع غزة عندما قال لهم” من يقول لكم عنده خطة لتحرير فلسطين يضحك عليكم” وجاء هذا القول بعد ترويج البعث السوري لخطة حرب التحرير الشعبية وقبلها محاولة الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم تشكيل جيش لتحرير فلسطين قبل الإطاحة به عام 1963.
مع كامل التقدير لكل ما قدمته الأمة العربية للشعب الفلسطيني وما زالت تقدمه حتى اليوم فإن الأنظمة العربية المتعاقبة تتحمل مسؤولية عن ضياع فلسطين، 78% من فلسطين ضاعت بسبب هزيمة 7 جيوش عربية أمام عصابات صهيونية عام 1948 (النكبة) وبقية فلسطين بالإضافة لأراضي عربية ضاعت بسبب عدوان حزيران 1967 حتى حرب أكتوبر 1973 كانت تحت عنوان استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وتم استعادة جزء منها ولكن بثمن سياسي (اتفاق كامب ديفيد) الذي مثل ضربة قاضية للبعد القومي للقضية الفلسطينية.
هل كل ما سبق يعني نهاية البعد القومي للقضية الفلسطينية؟
لا نعتقد ذلك والأصح أن نتحدث عن هذا البعد في ظل عالم عربي وعالمي يتغير وهي متغيرات من أهم نتائجها ظهور مشاكل وتحديات تواجه الدول العربية باتت محل اهتمام ولها الأولوية على القضايا القومية الكبرى ومنها القضية الفلسطينية، ومع اعتقادنا بأن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يقفون وراء ما تعرضت له الأمة العربية من انهيارات في العقود الأخيرة وخصوصا ًخلال ما يسمى (الربيع العربي) إلا أن هذا لا يعني تجاهل ظهور أولويات محلية أو قطرية لكل دولة عربية ومخاطر من دول الجوار أو ذات طبيعة اقتصادية، الأمر الذي يتطلب رؤية جديدة لعلاقة فلسطين بمحيطها العربي، حتى مع موجة التطبيع الأخيرة والتي قد تمتد لدول أخرى فإن الأمر يحتاج لمقاربة جديدة للبعد القومي لفلسطين لا تقطع مع الدول المطبعة بل تحاول الاستفادة من هذا المتغير دون التوقف عن تبيان الخطر الذي يمثله الكيان الصهيوني على الأمة العربية وأهدافه الخبيثة من وراء التطبيع مع الدول العربية.
وقد يسأل سائل وماذا بالنسبة للبعد الوطني وللفلسطينيين أنفسهم ودورهم أو مسؤوليتهم عن تراجع البعد القومي؟
للموضوعية والإنصاف يجب الإعتراف بأن الجانب العاطفي والإنساني والحماسي كان أحد مرتكزات الفكر القومي العربي ومن ضمنه البعد القومي للقضية الفلسطينية فالمثالية كانت تألب على الواقعية في الايديولوجيا القومية العربية. دون تجاهل مكون الانتماء والتاريخ المشترك فإن مقاطعة إسرائيل ودعم الشعب الفلسطيني واعتبار التطبيع خيانة كان ينطلق من معاداة الشعوب العربية للغرب حليف الحركة الصهيونية ومؤسسها الفعلي كما كان ينطلق من الإحساس بمظلومية الفلسطينيين الذين يواجهون حركة صهيونية يقف من ورائها الغرب كله وتمارس الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني الأعزل كما تأثرت الشعوب العربية بما تناقلته وسائل الإعلام العربية عن مجازر دير ياسين وكفر قاسم وغيرها ، و مع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي وصفها جمال عبد الناصر بأنها أنبل ظاهرة عرفها التاريخ زادت حالة التأييد والتعاطف مع الثوار الفلسطينيين وخصوصاً بعد هزيمة حزيران 1967 حيث نظرت الشعوب العربية للعمل الفدائي وحرب التحرير الشعبية وكأنها رد للكرامة العربية المهدورة في حرب حزيران .
دخول الثورة الفلسطينية التي عنوانها منظمة التحرير الفلسطينية للتسوية السياسية والاعتراف بإسرائيل بعد مؤتمر مدريد 1991 وتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 ثم الانقسام وتداعياته جرح رومانسية وطهرانبة القوميين العرب وكثير من الشعوب الغربية كما منح مزيداً من المبررات والذرائع لأنظمة وجماعات معادية للفلسطينيين وللعروبة وتتحين الفرصة للتخلص من عبء القضية الفلسطينية والانفتاح على إسرائيل، ومع ذلك يجب الإقرار بأن بعض الأنظمة والحركات العربية تتحمل مسؤولية عما أصاب الحالة الفلسطينية من انهيار من خلال تدخلها في الشأن الداخلي الفلسطيني وتأسيس تنظيمات فلسطينية تابعة لها وتوظيف المال السياسي لتعزيز فصيل فلسطيني على حساب الفصائل الأخرى بل وعلى حساب وحدة التمثيل الفلسطيني بالإضافة إلى دورها في صناعة الانقسام مؤخرا.ً
لا شك أن حضور القضية الفلسطينية عربياً ليس كما كان سابقا ًولكن حالة كي الوعي التي يمارسها الإعلام الصهيوني والأمريكي وإعلام بعض الدول المطبعة على الشعوب العربية ستفشل كما تدل آخر استطلاعات الرأي داخل الدول المطبعة، وستبقى قضية فلسطين محل اهتمام الشعوب العربية لأنها تمثل أعدل قضية في العالم والكيان الصهيوني يمثل أسوأ أنظمة العالم وأكثرها ممارسة للعنصرية، ولا نعتقد أن العرب سيكونون أقل انصافاً للشعب الفلسطيني من غالبية دول وشعوب العالم التي تعترف للشعب الفلسطيني بحقه في تقرير المصير وحقه في دولة مستقلة على أرضه كما منصوص عليه في عديد قرارات وتوصيات الأمم المتحدة.
وأخيرا فإن ما آلت إليه الأمور يحتاج لتصويب العلاقات الفلسطينية العربية رسمياً وشعبياً وتفهُم المخاطر والتهديدات التي تتعرض لها بعض الدول العربية.
(المقال بهذا العنوان في الأصل كلمة ألقيتها يوم الخامس عشر من الشهر الجاري في جامعة اليرموك في الأردن في ندوة على هامش احتفالية إربد عاصمة للثقافة العربية وكان حضوري بدعوة كريمة من وزيرة الثقافة في الأردن السيدة هيفاء النجار).