بقلم: تيسير خالد
منذ مطلع هذا العام بدأت عملية انقلاب في المشهد على الارض في الضفة الغربية المحتلة ، بما فيها القدس ، دفعت المحتل الاسرائيلي لبدء عملية أمنية – عسكرية أطلق عليها تسمية غريبة هي ” كاسر الامواج ” . بحثت في قاموس اسماء الحروب الاسرائيلية عن معنى هذه التسمية ، فلم أعثر على تفسير يقربني من الهدف سوى انها ترفع مستوى الغضب واللهب في ساحة المعركة ، فأنا اعرف أن حكام تل أبيب يختارون لحروبهم اسماء تشي بمفاهيم توراتية مثل ” حقل الأشواك ” أو ” السور الواقي ” أو ” أيام الندم ” أو ” سيف جلعاد ” أو ” عامود السحاب ” و ” الرصاص المصبوب ” و” الجرف الصامد ” وغير ذلك من تسميات . وعلى كل حال جاء كاسر الأمواج هذا يعكس حالة من الاستعداد لمواجهة يبدو أنها قد تختلف عن غيرها .
فالمواجهة الراهنة بين قوات الاحتلال الإسرائيلي ومجموعات المقاومة بمسمياتها المختلفة في الضفة الغربية المحتلة أصبحت حدثاً شبه يومي منذ مطلع هذا العام . هذه المواجهة بما تمثله من عمليات نوعية هي دون شك نقلة كبيرة في أساليب مقاومة الاحتلال ، وهي تحمل رسالة واضحة بأن الاحتلال لا يمكن أن يستمر دون أن يدفع المحتل الثمن ورسالة ترفع بكل تأكيد مستوى الضغط السياسي والأمني على القيادات السياسية والعسكرية للمحتل ومستوى الضغط الاقتصادي والمعنوي على جمهورها تدفعه للضغط على هذه القيادات للقيام بمراجعة لسياستها ليس في الداخل الاسرائيلي فقط ، بل وكذلك لسياستها القائمة على التواطؤ مع احتلال كولونيالي استيطاني يدفع بشكل متسارع لإغلاق العلاقات مع الفلسطينيين على دائرة امنية دموية بغلاف ديني توراتي .
وإضافة إلى ما تمثله العمليات النوعية في هذه المواجهة من نقلة جوهرية فى أساليب مقاومة الاحتلال فإنها وهي ترفع من مستوى الضغط السياسي والأمني والمعنوي على قيادة الاحتلال تدفعه للتواصل مع أطراف اقليمية ودولية بهدف الضغط على السلطة الفلسطينية للقيام بما يحتاجه الأمن الاسرائيلي من تعاون لإحباط العمليات ضد جنود الاحتلال والمستوطنين ، حيث تنظر دولة الاحتلال الى السلطة ليس باعتبارها شريكا في التوصل الى تسوية سياسية للصراع بل باعتبارها الوكيل الثانوي لمصالحها الأمنية . وفي ذلك درجة من الارتباك لا تخطئها العين في سلوك قيادة دولة اسرائيل ، وهو سلوك يكشف عن المدى الذي وصلت إليه حملة “كاسر الأمواج” من فشل ذريع، بالرغم من الفارق الهائل في الإمكانيات بين جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية وبين مقاومة ضعيفة التسليح والتجهيز قوية الإرادة والعزيمة.
وتطلق الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومحللون إسرائيليون التحذيرات من احتمال تطور المشهد من مجرد عمليات متفرقة من نمط ” الذئاب المنفردة “، وبأسلحة بسيطة إلى انتفاضة كبرى تعم مدناً وقرى الضفة الغربية ، في سياق تحدي قوة الردع الإسرائيلية وتراجعها وتدعو في الوقت نفسه الى تغيير في الوسائل والأدوات التي تتعامل معها قوات الاحتلال وكافة الأجهزة الأمنية وذلك بالتوغل في الأراضي الفلسطينية لحسم المواجهة قبل استفحالها ، وعدم الرهان على الرشوات والمحفزات الاقتصادية لاحتواء الوضع كتصاريح العمل للفلسطينيين في المشاريع الاسرائيلية وإطلاق حوار مع الفلسطينيين للتوصل الى تسوية سياسية تضمن بالدرجة الاولى مصالح اسرائيل ، وذلك بهدف منع احتمال انتقال شعلة المقاومة إلى معظم قرى وبلدات الضفة وقطاع غزة فضلاً عن القرى والبلدات العربية والمختلطة في الداخل الإسرائيلي ومنع الانزلاق نحو المنعطف ، الذي شهدته الجزائر في حرب التحرير ضد المستعمر الفرنسي وأدواته اليمينية المتطرفة كالجيش السري الفرنسي والحيلولة في الوقت المناسب دون صراعات أهلية عرقية وإثنية ودينية من شأنها أن تضرب دولة إسرائيل في الصميم .
هناك ثمة شعور يتنامى حتى في الداخل الاسرائيلي وفي المؤسسات والأجهزة الأمنية أن ظهور تلك المجموعات من المقاومة والمُشكلة أساساً من جيل شاب ولد ونما وترعرع على ابواب انتفاضة الأقصى وبعدها ، يعيش معاناة لا توصف من الاحتلال وسياساته التي فاقت حدود الاحتمال في همجيتها في الأعوام الماضية ، حيث أصبحت عمليات الهجوم على القرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية حدثاً يومياً، ترافقه اعتقالات وهدم منازل وقتل فلسطينيين بمن فيهم سيدات وأطفال بدم بارد على مرأى ومسمع من العالم الذي يلتزم الصمت ، فضلاً عن الإغلاقات وسياسات العقاب الجماعي، وتدمير مقدرات السلطة الوطنية ونزع الشرعية عنها ، وتجاهل دورها في التعبير عن الطموحات الفلسطينية ، والضغط عليها باستمرار ودفعها للتحول الى مجرد أداة أمنية لصالح الاحتلال ، مما أفقد هذا الجيل الثقة في السلطة وأصبح يبحث عن طريق جديد للمقاومة يحول الاحتلال الى احتلال مكلف دون ان يكون له هوية تنظيمية محددة . أن جزءا كبيرا من هذا الجيل لا يلتزم كما هو واضح بأيدولوجية معنية أو بهرمية تنظيمية محددة بقدر ما هو حالة وطنية تقوم بفعل مقاوم من منطلقات وطنية كرد فعل على جرائم الاحتلال ، وهو جيل لم يخضع لعمليات كي الوعي التي مارستها دولة الاحتلال في الانتفاضة الثانية ولم يخضع لعمليات ملاحقة أمنية في السابق ، يسهل عليه الحركة دون التعرض لعمليات استباقية .
وقد جاءت التحديات التي فرضتها المواجهات المستمرة على امتداد شهور منذ مطلع العام أكبر من التوقعات الاسرائيلية بكثير ما دفع حكام تل أبيب إلى مثل هذا الاستنفار ، الذي يشمل انتشار أعداد كبيرة القوات العسكرية والامنية للتعامل مع تحديات الساعة بتركيز على توفيرالحماية في نطاق المدن الاسرائيلية اولا وتوفير حراسة خط التماس وجدار الفصل العنصري ثانيا وأمن المستوطنات والمستوطنين ثالثا والقيام بجهد استخباري في عمق مناطق التوتر رابعا وبخاصة في مناطق شمال الضفة الغربية لتطويق نشاط المقاومة في هذه المناطق ومنع تمدده الى الوسط والجنوب في الضفة الغربية وفي الوقت نفسه الحفاظ على الهدوء مع قطاع غزة المحاصر. وبنت اسرائيل خطتها وفق ذلك على سلسلة نشاطات عسكرية وأمنية تجري على نطاقات أوسع مما كان في المواجهات على امتداد أعوام سابقة . فقد استنفر جيش الاحتلال منذ انطلاق هذه عملية ” كاسر الأمواج ” نحو 25 كتيبة من القوات البرية للمساعدة في السيطرة على الوضع ، وهو عدد يزيد على ضعف عدد الكتائب كانت تنتشر في مناطق الضفة الغربية خلال الوضع الروتيني ، بالإضافة إلى استنفار الوحدات الخاصة التي تقوم بمهمات الاعتقال والتصدي لخلايا المقاومة ، والتي يصل عددها نحو خمسة آلاف علاوة على الاستعانة بوحدة 8200 وسلاح الجو في مهام المراقبة ناهيك عن كتيبة جمع المعلومات القتالية العاملة بشكل دائم في الضفة .الى جانب ثمانية آلاف من أفراد الشرطة .
ومع ذلك نجد ان تلك النشاطات ، التي ينفذها جيش الاحتلال وبهذا الحجم من القوات تزيد من فرص الاحتكاك مع الفلسطينيين خاصة مع دخول المستوطنين على خط الاشتباك مع الفلسطينيين في مدنهم وبلداتهم وقراهم ومخيماتهم ، ما تؤدي إلى زيادة مستوى اللهب ويأتي بنتائج عكسية، تتعارض مع رؤية الجيش بالحفاظ على وتيرة منخفضة من التصعيد . وفي ظل هكذا مستوى من المواجهة يدعو بعض المسؤولين الإسرائيليين الى سياسة عزل وفرض طوق شامل على الضفة الغربية، أمثال جدعون ساعر، الأمر الذي تعارضه الاوساط الاقتصادية باعتباره يلحق أضراراً بـدولة الاحتلال أضرارا لا تقل عن 500 مليون شيكل أسبوعياً.
وعلى رغم تلويح بعض المسئولين باجتياح واسع لمناطق الضفة على غِرار عملية ” السور الواقي ” إلّا أن حكام تل أبيب لا يبدون حماسا لذلك عشيّة انتخابات الكنيست مطلع الشهر القادم ، نظرا لعدم انتظار نتائج مشجعة ، ومن هنا تنحصر خياراتهم في سياسة تقوم على نشر الحواجز بكثافة واستباحة الدم الفلسطيني والحصار والتنكيل والعقوبات الجماعية وهي سياسة عقيمة لا تستطيع خفض مستوى اللهب وتأتي بنتائج عكسية ولا تحول دون اتساع نطاق المواجهة كما كان ذلك واضحا في عملية سهل البقيعة في الأغوار الشماليّة في الرابع من أيلول الماضي ، حيث نفّذ رجال المقاومة في شارع ألون الاستيطانيّ وفي حيزٍ جغرافيٍّ تحاصر فيه اسرائيل الفلسطينيين بالاستيطان والنقاط العسكريّة وفي العملية التي استهدفت جنود الاحتلال على حاجز شعفاط على ابواب القدس حيث درجة الاستعداد عالية للغاية . ذلك واضح خاصة وتؤشر عليه بوضوح معطيات جهاز ” الشاباك ” ، التي تؤكد أنّ هذا العام قد شهد ارتفاعاً واضحاً بعمليات إطلاق النار مقابل اشكال مقاومة أخرى كانت سائدة في أعوام سابقة . فبحسب هذا الجهاز ازدادت عملياتُ إطلاق النار بنسبة 30% مقارنةً بالعام الماضي ، ووقعت حتى نهاية اكتوبر أكثر من 200 عملية إطلاق نار، مقارنةً بـنحو 98 عملية في العام 2021 و19 عملية في العام 2020
وفي الخلاصة فقد بدأت تتشكل في الضفة الغربية حالة وطنية لها قياداتها ورموزها الشابة الخاصة بها على درجة من الاستقلالية عن المنظومة السياسية الرسمية وحتى الشعبية ، وقد بدأت تستقطب اهتمام المجتمع الفلسطيني وتحوز الى حد ما على ثقته ، هذا المجتمع ، الذي يمر بمرحلة انتقالية ما بين قديم غير فابل للتطور وجديد يجري العمل على بنائه وهي مرحلة أقرب إلى حالة الفراغ ، الذي ينتظر من يملأ خزانه . ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن دور القوى السياسية والفصائل الوطنية قد وصل الى طريق مسدود بقدر ما يعني بأن عليها ان تقوم بمراجعة جادة ومسئولة تطال جوانب عملها على مختلف الأصعدة لتشكل بخبرتها السياسية الحاضنة الكفاحية للحالة الوطنية الجديدة والرافعة التي لا غنى عنها لانتفاضة شعبية واسعة تفضي الى عصيان وطني يأخذ على عاتقه مسئولية التصدي ليس فقط لعملية ” كاسر الأمواج ” الاسرائيلية بل ولمجمل السياسة العدوانية لدولة الاحتلال . فكاسر الامواج لا جدوى منه ووظيفته الوحيدة رفع مستوى الغضب واللهب .